Published
0 136 0
الفصل الثامن و الأربعين فصل في اتساع الدولة أولا إلى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة و اضمحلالها قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة و الملك، و هو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك و العمالات لا تزيد عليها. و اعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها و جهاتها. فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، و يحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. و قد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى. و قد تكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. و هذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة و خشونة البأس. فإذا استفحل العز و الغلب و توفرت النعم و الأرزاق بدرور الجبايات، و زخر بحر الترف و الحضارة و نشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية و رقت حواشيهم، و عاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن و الكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس و الرجولية بمفارقة البداوة و خشونتها، و بأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة و التنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببغض، و يحبكهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم و إهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء و الكبراء، و تكثر التابع و المرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، و يكسر من شوكتها. و يقع الخلل الأول في الدولة و هو الذي من جهة الجند و الحامية كما تقدم. و يساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز. و تجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم و الملابس و تشييد القصور و استجادة السلاح و ارتباط الخيول، فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها و يطرق الخلل. الثاني في الدولة و هو الذي من جهة المال و الجباية. و يحصل العجز و الانتقاض بوجود الخللين. و ربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا و عجزوا عن مغالبة المجاورين و المنازعين و مدافعتهم. و ربما اعتز أهل الثغور و الأطراف بما يحسبون من ضعف الدولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال و الاستبداد بما في أيديهم من العمالات، و يعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عن كانت انتهت إليه في أولها، و ترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز و الكسل في العصابة و قلة الأموال و الجباية. فيذهب القائم بالدولة إلى تغير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند و المال و الولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل و الخرج و الحامية و العمالات و توزيع الجباية على الأرزاق، و مقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال. و المفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة. فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل. و يعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، و يقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور و يأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، و يقع فيه ما وقع في الأول. فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، و مجددون ملكا. حتى تنقرض الدولة، و تتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها و إنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه. و اعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات و التغلب على الأمم، ثم تزايد الحامية و تكاثر عددهم مما تخولوه من النعم و الأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية و غلب بنو العباس. ثم تزايد الترف. و نشأت الحضارة و طرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس و المغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية و العلوية، و اقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بنى الرشيد، و ظهر دعاة العلوية من كل جانب، و تمهدت لهم دول، ثم قتل المتوكل، و استبد الحرار على الخلفاء و حجروهم، و استقل الولاة بالعملات في الأطراف. و انقطع الخراج منها، و تزايد الترف. و جاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر و بني طاهر العراق و خراسان، و بني الصغار السند وفارس، و بني طولون مصر، و بني الأغلب أفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، و استبد بنو بويه و الديلم بدولة الإسلام و حجروا الخلافة، و بقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر و تطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر و الشام فملكوه. ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام و أبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. و استبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر و هو عراق العرب إلى أصبهان و فارس و البحرين. و أقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولي بن دوشي خان ملك التتر و المغل حين غلبوا السلجوقية و ملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. و هكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول. و لا يزال طورا بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. و اعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنة الله في الدول "إلى أن يأتي ما قدر الله من الغناء على خلقه. و” كل شيء هالك إلا وجهه