Published
0 109 0
الفصل السابع و الثلاثون في الحروب و مذاهب الأمم و ترتيبها اعلم أن الحروب و أنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ براها الله و أصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض و يتعصب لكل منها أهل عصبيه فإذا تذامروا لذلك و توافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام و الأخرى تدافع كانت الحرب و هو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة و لا جيل و سبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة و منافسة. و إما عدوان و إما غضب لله ولدينه و أما غضب للملك و سعي في تمهيده فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة و العشائر المتناظرة و الثاني و هو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب و الترك و التركمان و الأكراد و أشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم و معاشهم فيما بأيدي غيرهم و من دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب و لا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة و لا ملك و إنما همهم و نصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم و الثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد و الرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها و المانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصنفان الأولان منها حروب بغي و فتنة و الصنفان الأخيران حروب جهاد و عدل و صفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفاً و نوع بالكر و الفر أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم و أما الذي بالكر و الفر فهو قتال العرب و البربر من أهل المغرب و قتال الزحف أوثق و أشد من قتال الكر و الفر و ذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف و تسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة و يمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً، فلذلك تكون أثبت عند المصالح و أصدق في القتال و أرهب للعدو. لأنه كالحائط الممتد و القصر المشيد لا يطمع في إزالته و في التنزيل” إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص” أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات و في الحديث الكريم" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضة بعضاً" و من هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات و تحريم التولي يوم الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف و باء بإثم الهزيمة إن وقعت و صار كأنه جرها على المسلمين و أمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة و تعديها إلى الدين بخرق سياجه فعد من الكبائر و يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع و أما قتال الكر و الفر فليس فيه من الشدة و الأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر و الفر و يقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد. ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش و العساكر أقساماً يسمونها كراديس و يسوون في كل كردوس صفوفه ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة و حشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب و اعتوروا مع عدوهم الطعن و الضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء و جهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً و يضمون المتعارفين بعضهم لبعض و يرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع و رئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب و يسمون هذا الترتيب التعبئة و هو مذكور في أخبار فارس و الروم و الدولتين و صدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده و رايته و شعاره و يسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر ناحية اليمين عن موقف الملك و على سمته يسمونه الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمونه الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة و يقف الملك و أصحابه في الوسط بين هذه الأربع و يسمون موقفه القلب فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم أما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم و اليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة و الكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة و انظر ذلك في أخبار الفتوحات و أخبار الدولتين بالمشرق و كيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه و عين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه و كما هو معروف في أخباره و كان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه و هو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة و يعرف كل واحد منهم قرنة و يناديه في حومة الحرب باسمه و لقبه فاستغنى عن تلك التعبئة. و من مذاهب أهل الكر و الفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات و الحيوانات العجم فيتخذونها ملجأً للخيالة في كرهم و فرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب و أقرب إلى الغلب و قد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً و شدة فقد كان الفرس و هم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب و يحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة و السلاح و الرايات و يصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم و يزداد وثوقهم و انظر ما وقع من ذلك في القادسية و إن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم و بعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت و نكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك و انهزموا في اليوم الرابع. و أما الروم و ملوك القوط بالأندلس و أكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب و يحف به من خدمه و حاشيته و جنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه و ترفع الرايات في أركان السرير و يحدق به سياج آخر من الرماة و الرجالة فيعظم هيكل السرير و يصير فئة للمقاتلة و ملجأ للكر و الفر و جعل ذلك الفرس أيام القادسية و كان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى اختلفت صفوف فارس و خالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات و قتل. و أما أهل الكر و الفر من العرب و أكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم و الظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم و يسمونها المجبوذة و ليس أمة من الأمم إلا و هي تفعل في حروبها و تراه أوثق في الجولة و آمن من الغرة و الهزيمة و هو أمر مشاهد و قد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة و اعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال و الفساطيط يجعلونها ساقةً من خلفهم و لا تغني غناء الفيلة و الإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم و مستشعرة للفرار في المواقف. و كان الحرب أول الإسلام كله زحفاً و كان العرب إنما يعرفون الكر و الفر لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. و الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر، و لما رسخ فيهم من الإيمان و الزحف إلى الاستماتة أقرب. و أول من أبطل الصف في الحروب و صار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي و الجبيري بعده قال الطبري لما ذكر قتال الجبيري فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري و يلقب أبا الذلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس و أبطل الصف من يومئذ انتهى. فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف و ذلك أنها حينما كانت بدوية و سكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل و سكنى النساء و الولدان معهم في الأحياء فلما حصلوا على ترف الملك و ألفوا سكنى القصور و الحواضر و تركوا شأن البادية و القفر نسوا لذلك عهد الإبل و الظعائن و صعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك و الترف على اتخاذ الفساطيط و الأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال و الأبنية و كان ذلك صفتهم في الحرب و لا يغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل و المال فيخف الصبر من أجل ذلك و تصرفهم الهيعات و تخرم صفوفهم. و لما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر و تأكده في قتال الكر و الفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم و اختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر و الفر و السلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف و إلا أجفلوا على طريقة أهل الكر و الفر فانهزم السلطان و العساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف و هم الإفرنج و يرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. و إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان و الإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب و البربر و قتالهم على الطاعة و أما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالاتهم على المسلمين هذا هو الواقع لهذا العهد و قد أ بدينا سببه و الله بكل شيء عليم. و بلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام و إن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف و أنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف و يترجلون عن خيولهم و يفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً و كل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى و هي تعبئة محكمة غريبة. و كان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات و الهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته و وحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار و تجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر و وقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا و ضربوا أبنيتهم و يديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا. و كانت للدول في أمثال هذا قوة و عليه اقتدار باحتشاد الرجال و جمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران و ضخامة الملك فلما خرب العمران و تبعه ضعف الدول و قلة الجنود و عدم الفعلة نسي هذا الشأن جملة كأنه لم يكن و الله خير القادرين. و انظر وصية علي رضي الله عنه و تحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب و لم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و التووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة و غضوا الأبصار فإنه أربط للجأش و أسكن للقلوب و اخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و أقيموا راياتكم فلا تميلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم و استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر و قال الأشتر يومئذ يحرص الأزد: عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم و شدوا شدة قوم موتورين من يثأرون بآبائهم و إخوانهم حناقاً على عدوهم و قد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر و لا يلحقهم في الدنيا عار و قد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة و أهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف و يصف ثباته في حرب شهدها و يذكره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها. يا أيها الملأ الذي يتقنعمن منكم الملك الهمام الأروع و من الذي غدر العدو به دجى ///// فانفض كل و هو لا يتزعزع تمضي الفوارس و الطعان يصدها ///// عنه و يدمرها الوفاء فترجع و الليل من وضح الترائك إنهصبح على هام الجيوش يلمع أنى فزعتم يا بني صنهاجةو إليكم في الروع كان المفزع إنسان عين لم يصبها منكمحضن و قلب أسلمته الأضلع و صددتم عن تاشفين و إنهلعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلا أسود خفية ///// كل لكل كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذرهبالليل و العذر الذي لا يدفع و منها في سياسة الحرب أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين و تنفع و البس من الحلق المضاعفة التي ///// وصى بها صنع الصنائع تبع و الهندواني الرقيق فإنهأمضى على حد الدلاص و أقطع و اركب من الخيل السوابق عدة حصناً حصيناً ليس فيه مدفع خندق عليك إذا ضربت محلة ///// سيان تتبع ظافراً أو تتبع و الواد لا تعبره و انزل عنده بين العدو و بين جيشك يقطع و اجعل مناجزة الجيوش عشية و وراءك الصدق الذي هو أمنع و إذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توشع و اصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع و اجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لا تخدع لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع قوله و اصدمه أول وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس و العراق فقال له اسمع و أطع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أشركهم في الأمر و لا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب و لا يصلح لها الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة و الكف و قال له في أخرى: إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته في الحرب و في التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع و الله لولا ذلك لأمرته لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث هذا كلام عمر و هو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب و ذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه و الله تعالى اعلم. و لا وثوق في الحرب بالظفر و إن حصلت أسبابه من العدة و العديد و إنما الظفر فيها و الغلب من قبيل البحث و الإتفاق و بيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة و هي الجيوش و وفورها و كمال الأسلحة و استجادتها و كثرة الشجعان و ترتيب المصاف و منه صدق القتال و ما جرى مجرى ذلك و من أمور خفية و هي إما خداع البشر و حيلهم في الإرجاف و التشانيع التي يقع بها التخذيل و في التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوههم المنخفض لذلك و في الكمون في الغياض و مطمئن الأرض و التواري بالكدى حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة و قد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة و أمثال ذلك و إما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة و أكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة و لذلك قال صلى الله عليه و سلم: الحرب خدعة و من أمثال العرب رب حيلة أنفع من قبيلة فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة و وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه فاعتبره و تفهم من وقع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه و سلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر و ما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل و غلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإن الله سبحانه و تعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهرموا معجزة لرسوله صلى الله عليه و سلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها أنه خفي عن العيون. و قد ذكر الطرطوشي: أن من أسباب الغلب في الحرب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير و في الجالب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد و لو بواحد يكون له الغلب و أعاد في ذلك و أبدى و هو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا و ليس بصحيح. و إنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم و في الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد و يكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهمه و اعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي و لم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة و بلدة و أنهم إنما يرون ذلك الدفاع و الحماية و المطالبة إلى الوحدان و الجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية و لا نسباً و قد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا و أمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش في العدة و صدق القتال و كثرة الأسلحة و ما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب و نحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل و الخداع و لا الأمور السماوية من الرعب و الخذلان الإلهي فافهمه و تفهم أحوال الكون و الله مقدر الليل و النهار. و يلحق بمعنى الغلب في الحروب و أن أسبابه خفية و غير طبيعية حال الشهرة و الصيت فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك و العلماء و الصالحين و المنتحلين للفصائل على العموم و كثير ممن اشتهر بالشر و هو بخلافه و كثير ممن تجاوزت عنه الشهرة و هو أحق بها و أهلها و قد تصادف موضعها و تكون طبقاً على صاحبها و السبب في ذلك أن الشهرة و الصيت إنما هما بالإخبار و الإخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل و يدخلها التعصب و التشييع و يدخلها الأوهام و يدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس و التصنع أو لجهل الناقل و يدخلها التقرب لأصحاب التجلة و المراتب الدنيوية بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك و النفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطاولون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل و لا منافسين في أهلها و أين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه و تكون غير مطابقة و كل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.