Published
0 141 0
الفصل السادس في المساجد و البيوت العظيمة في العالم إعلم أن الله سبحانه و تعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه و جعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب و ينمو بها الأجور و أخبرنا بذلك على ألسن رسله و أنبيائه لطفاً بعباده و تسهيلاً لطرق السعادة لهم. و كانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين و هي مكة و المدينة و بيت المقدس. أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله و سلامه عليه. أمره الله ببنائه و أن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو و ابنه إسماعيل كما نصه القرآن و قام بما أمره الله فيه و سكن إسماعيل به مع هاجر و من نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله و دفنا بالحجر منه. و بيت المقدس بناه داوود و سليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده و نصب هياكله و دفن كثير من الانبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه. و المدينة فهاجر نبينا محمد صلوات الله و سلامة عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها و إقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها و كان ملحده الشريف في تربتها فبهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين و مهوى أفئدتهم و عظمة دينهم و في الآثار من فضلها و مضاعفة الثواب في مجاورتها و الصلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة و كيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأما مكة فأوليتها فيما يقال أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك و ليس فيه خبر صحيح يعول عليه. و إنما اقتبسوه من محمل الآية في قوله” و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل” ثم بعث الله إبراهيم و كان من شأنه و شأن زوجته سارة و غيرتها من هاجر ما هو معروف و أوحى الله إليه أن يترك ابنه اسماعيل و أمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت و سار عنهما و كيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم و مرور الرفقة من جرهم بها حتى احتملوهما و سكنوا إليهم كما و نزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه و أدار عليه سياجاً من الردم و جعله زرباً لغنمه و جاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه و استعان فيه بابنه إسماعيل و دعا الناس إلى حجه و بقي إسماعيل ساكناً به و لما قبضت أمه هاجر و قام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم و استمر الحال على ذلك و الناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل و لا من غيرهم ممن دنا أو نأى فقد نقل أن التبابعة كانت تحج البيت وتعظمه و أن تبعاً كساها الملاء و الوصائل و أمر بتطهيرها و جعل لها مفتاحاً. و نقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه و تقرب إليه و أن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتقر زمزم كانا من قرابينهم. و لم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة و أقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثم كثر ولد إسماعيل و انتشروا و تشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش و غيرهم و ساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره و أخرجوهم من البيت و ملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت و سقفه بخشب الدوم و جريد النخل و قال الأعشى: خلفت بثوبي راهب الدور و التي بناها قصي و المضاض بن جرهم ثم أصاب البيت سيل و يقال حريق و تهدم و أعادوا بناءه و جمعوا النفقة لذلك من أموالهم و انكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف و كانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعاً و كان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول و قصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده و تركوا منه ست أذرع و شبراً أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه و هو الحجر و بقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه و زحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني. و رمى البيت سنة أربع و ستين فأصابه حريق، يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه فهدمه ابن الزبير فأعاد بناءه أحسن مما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه. و احتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها، لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم و لجعلت له بابين شرقياً و غربياً فهدمه و كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام و جمع الوجوه و الأكابر حتى عاينوه و أشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب و نصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة و بعث إلى صنعاء في الفضة و الكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام و رفع في جدرانها سبعاً و عشرين ذراعاً و جعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه و جعل فرشها و إزرها بالرخام و صاغ لها المفاتيح و صفائح الأبواب من الذهب. ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك و رمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانها. ثم لما ظفر بابن الزبير شاور عبد الملك فيما بناه و زاده في البيت فأمره بهدمه و رد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. و يقال: أنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة، و قال وددت أني كنت حملت أبا حبيب في أمر البيت و بنائه ما تحمل. فهدم الحجاج منها ست أذرع و شبراً مكان الحجر و بناها على أساس قريش و سد الباب الغربي و ما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي. و ترك سائرها لم يغير منه شيئاً فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير و بناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. و البناء متميز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصدع و قد لحم. و يعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف و يحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدر إنما قامت على بعض الأساس و ترك بعضه و هو مكان الشاذروان و كذا قالوا في تقبيل الحجر السود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت و إذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير و هو إنما بني على أساس ابراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه و لا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجاج هدم جميعه و أعاده و قد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين و تمييز أحد الشقين من أعلاه على الآخر في الصناعة يرد ذلك و أما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته و إنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزنير ليست على قواعد إبراهيم و هذا بعيد و لا محيص من هذين و الله تعالى اعلم. ثم أن مساحة البيت و هو المسجد كان فضاء للطائفين و لم يكن عليه جدر أيام النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر من بعده. ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دوراً هدمها و زادها في المسجد و أدار عليها جداراً دون القامة و فعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك و بناه بعمد الرخام ثم زاد فيه المنصور و ابنه المهدي من بعده و وقفت الزيادة و استقرت على ذلك لعهدنا. و تشريف الله لهذا البيت و عنايته به أكثر من أن يحاط به و كفى بذلك أن جعله مهبطاً للوحي و الملائكة و مكاناً للعبادة و فرض شرائع الحج و مناسكه و أوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم و الحق ما لم يوجبه لغير فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم و أوجب على دخله أن يتجرد من المحيط إلا أزاراً يستره و حمى العائذ به و الراتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف و لا يصاد له وحش و لا يحتطب له شجر. و حد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم و من طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع و من طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة و من طريق جدة سبعه أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكة و خبرها و تسمى أم القرى و تسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب. و يقال لها أيضاً بكة قال الأصمعي، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع و قال مجاهد باء بكة أبدلوها ميماً كما قالوا لازب و لازم لقرب المخرجين. و قال النخعي بالباء و بالميم البلد و قال الزهري بالباء للمسجد كله و بالميم للحرم و قد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه و الملوك تبعث إليه بالأموال و الذخائر مثل كسرى و غيره و قصة الأسياف و غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة و قد وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار، وزناً و قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك. فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه. هكذا قال الأزرقي. و في البخاري يسنده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان و قال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء و لا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: و لم ؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدى بهما. و خرجه أبو داود و ابن ماجة و أقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس و هو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع و تسعين و مائة حين غلب مكة عمد إلى الكعبة فأخذ مافي خزائنها و قال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا و أخرجه و تصرف فيه و بطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ. و أما بيت المقدس و هو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضع الزهرة و كانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك ثم دثر ذلك الهيكل و اتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. و ذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل و أباه إسحق من قبله و أقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي و مقدارها و صفتها و هياكلها و تماثيلها و أن يكون فيها التابوت و مائدة بصحافها و منارة بقناديلها و أن يصنع مذبحاً للقربان وصف ذلك كأنه في التوراة أكمل وصف فصنع القبة و وضع فيها تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت و وضع المذبح عندها. و عهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان و نصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها و يتقربون في المذبح أمامها و يتعرضون للوحي عندها. و لما ملكوا أرض الشام أنزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين و بني أفراييم. و بقيت هنالك أربع عشرة سنة سبعاً مدة الحرب، و سبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد. و لما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال، و أداروا عليها الحيطان. و أقامت على ذلك ثلثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر، و تغلبوا عليهم. ثم ردوا عليهم القبة و نقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. و لما ملك داوود عليه السلام نقل القبة و التابوت إلى بيت المقدس و جعل عليها خباء خاصاً و وضعها على الصخرة. و بقيت تلك القبة قبلتهم و وضعوها على الصخرة ببيت المقدس و أراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك و عهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه و لخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام. و أتخذ عمده من الصفر و جعل به صرح الزجاج و غشى أبوابه و حيطانه بالذهب و صاغ هياكله و تماثيله و أوعيته و منارته و مفتاحه من الذهب و جعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح و جاء به من صهيون بلد أبيه داوود نقله إليه أيام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط و الكهنوتية حتى وضعه في القبر و وضعت القبة و الأوعية و المذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد. و أقام كذلك ما شاء الله. ثم خربه بخت نصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه و أحرق التوراة و العصا و صاغ الهياكل و نثر الأحجار. ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبنى إسرائيل عليه من سبي بخت نصر و حد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داوود عليهما السلام فلم يتجارزوها. و أما الأواوين التي تحت المسجد، يركب بعضها بعضاً، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. و يتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام، و ليس كذلك. لو إنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة، لأن النجاسات في شريعتهم و إن كانت في باطن الأرض و كان ما بينها و بين ظاهر الأرض محشواً بالتراب، بحيث يصل ما بينها و بين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم. و المتوهم عندهم كالمحقق. فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها و ينقطع خطه، فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم. و تنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة و التقديس. ثم تداونتهم ملوك يونان الفرس و الروم و استفحل الملك لبني اسرائيل في هذه المدة ثم لبني حشمناي من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس و لبنيه من بعد. و بنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام و تأنق فيه حتى أكمله في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الروم و غلبهم و ملك أمرهم خرب بيت المقدس و مسجدها و أمر أن يزرع مكانه ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام و دانوا بتعظيمه ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارةً و تركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين و تنصرت أمه هيلانة و ارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنه رمى بخشبته على الأرض و ألقى عليها القمامات و القاذورات فاستخرجت الخشبة و بنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم و هربت ما وجدت من عمارة البيت و أمرت بطرح الزبل و القمامات على الصخرة حتى غطاها و خفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم و هو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام و بقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام و حضر عمر لفتح بيت المقدس و سأل عن الصخرة فأري مكانها و قد علاها الزبل و التراب فكشف عنها و بنى عليها مسجداً على طريق البداوة و عظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه و ما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام و في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة و في مسجد دمشق و كانت العرب تسميه بلاط الوليد و ألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة و المال لبناء هذه المساجد و أن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك و تم بناؤها على ما اقترحه. ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهر من الشيعة و اختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه و ملكوا معه عامة ثغور الشام و بنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها و يفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر و الشام و محا أثر العبيديين و بدعهم زحف إلى الشام و جاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس و على ما كانوا ملكوه من ثغور الشام و ذلك لنحو ثمانين و خمسمائة من الهجرة و هدم تلك الكنيسة و أظهر الصخرة و بني المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد. و لا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن أول بيت وضع فقال: بين مكة و بين بناء بيت المقدس قيل فكم بينهما ؟ قال أربعون سنة فإن المدة بين بناء مكة و بين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم و سليمان لأن سليمان بانيه و هو ينيف على الألف بكثير. و أعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء و إنما المراد أول بيت عين للعبادة و لا يبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة و قد نقل أن الصابئه بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك أنها كانت مكاناً للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام و التماثيل حوالي الكعبة و في جوفها و الصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مدة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة و وضع بيت المقدس و إن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف و أن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال. و أما المدينة و هي المسماة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة و ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثم جاورهم بنو قيلة من غسان و غلبوهم عليها و على حصونها. ثم أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها و معه أبو بكر و تبعه أصحابه و نزل بها و بنى مسجده و بيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك و شرفه في سابق أزله و أواه أبناء قيلة و نصروه فلذلك سموا الأنصار و تمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات و غلب على قومه و فتح مكة و ملكها و ظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده فأهمهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبرهم انه غير متحول حتى إذا قبض صلى الله عليه و سلم كان ملحده الشريف بها و جاء في فضلها من الأحاديث الصحيحة مالا خفاء به و وقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة و به قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رفيع بن مخدج أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المدينة خير من مكة نقل ذلك أبو الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك و خالف أبو حنيفة و الشافعي. و أصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام و جنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله لها و تفهم سر الله في الكون و تدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين و الدنيا. و أما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه و قد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم منها بيوت النار للفرس و هياكل يونان و بيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بهدمها في غزواته و قد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة و لا هي على طريق ديني و لا يلتفت إليها و لا إلى الخبر عنها و يكفي في ذلك ما وقع في التواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها و الله يهدي من يشاء سبحانه.