الفصل الثالث و الثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً و خصوصاً الكتابة و الحساب قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة. و أن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم و الإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل و عقلاً محضاً فتكون ذاتاً روحانيةً و يستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم و النظر يفيدها عقلاً فريداً و الصنائع أبداً يحصل عنها و عن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً و الحضارة الكاملة تفيد عقلاً لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل و معاشرة أبناء الجنس و تحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين و اعتبار آدابها و شرائطها. و هذه كلها قوانين تنتظم علوماً فيحصل منها زيادة عقل. و الكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم و الأنظار بخلاف الصنائع. و بيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال و من الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل، ما دام ملتبساً بالكتابة و تتعود النفس ذلك دائماً. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات و هو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل و يحصل به قوة فطنة و كيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال. و لذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة و الكيس فقال: ديوانه أي شياطين و جنون. قالوا: و ذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة و يلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في المدد بالضم و التفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوداً للاستدلال و النظر و هو معنى العقل. و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة، قليلاً ما تشكرون.